Friday, December 18, 2009

في يوم ميلادي - بقلم الكاتب والاعلامي المبدع مفيد فوزي

في يوم ميلادي‏,‏ لا أدري لماذا تقفز الي ذهني شطرة من بيت لقصيدة كامل الشناوي‏(‏ عدت يا أيها الشقي‏)‏؟ أنا أقول إنه يوم ميلادي وليس عيد ميلادي‏,‏ إذ كيف يعتبر الإنسان مرور عام من عمره عيدا؟ وعندما يجيء يوم ميلادي تهب علي نسمة شجن لا أعرف مصدرها‏,‏ ولكنها تهز أوراق شجرة العمر‏,‏ وأنا من أسرة لم تعرف أعياد الميلاد الفاخرة‏,‏ فقد كان أبي يقول لي يوم ميلادي‏(‏ اعقل لأنك كبرت‏),‏ وأجزم بأني كنت طفلا جادا وعاقلا‏,‏ لكن آباء جيلي كانوا اذا أرادوا التهنئة بعيد الميلاد‏..‏ جاءت بروح التأنيب‏!‏ وعندما تزوجت آمال العمدة أصرت علي الاحتفال الصخب‏,‏ وكنت استعجل نهاية السهرة ولم أكن أفرح بالهدايا التقليدية في هذه المناسبة‏,‏ بعض الناس يعدون ترتيبات أعياد الميلاد قبل وقت طويل‏,‏ أما أنا فأنتظر قدومه علي رصيف الحياة‏,‏ وعندما يصل أعانقه لا أكثر‏!‏ أحيانا تصلني دعوات لأعياد ميلاد أصدقاء‏,‏ فألبي بعضها حسب عمق العلاقة وأحرص علي الذهاب ومعي هدية رمزية‏,‏ وقد تعودت يوم ميلادي علي أن استقبل هدايا من أقلام فاخرة كفيلة بأن تكون جزءا من مكتبة مع اني أكتب عادة بالقلم الفلوماستر‏,‏ وهو قلم رخيص لا يزيد ثمنه علي سبعة قروش‏!‏ فالمهم ما يسطره القلم لا نوعه‏,‏ هناك باقات ورد تصلني والتهنئة مكتوبة بقلم العامل في محل الورد‏..‏ خط ركيك والكلام أكثر ركاكة‏!‏ فعندما أرسل باقة ورد لصديق في يوم ميلاده أحرص علي الكتابة بخط يدي وأختار كلمات مملوءة بالأمل ولا أعرف لغة‏SMS‏ علي الموبايل لاني فشلت في استيعاب خطوات كتابة الرسالة بحروف صغيرة تحتاج لنظارة طبية‏.‏

في يوم ميلادي‏,‏ أتذكر اني عبرت نهر حياتي بكثير من الصعاب‏,‏ فلم يكن في قاربي مجدافا الصبر والإصرار‏,‏ لكنني عبرت‏!‏ أتذكر أياما كثيرة صعبة لكنها منحتني الصلابة‏,‏ وأتذكر أياما قليلة مفعمة بالسعادة‏,‏ وكثيرا ما أجترها وحدي ربما لأن أغنية عبدالوهاب ترن في خاطري دائما‏(‏ طول عمري عايش لوحدي‏)‏ وعندما تتسلل الي أذني تغافلني دمعة‏,‏ بعض صعاب نهر العمر أو أغلبها كانت في فهم الناس من حولي‏,‏ فاختلاف الثقافات والبيئات يصنع صداما مع الآخرين‏,‏ وقد لقنني الزمن درسا مهما هو‏:‏ التكيف مع واقعي مهما كانت مرارته‏,‏ طلب مني الزمن أن أكون طبيب نفسي وأعالج جروحي باللجوء اليه بعد الايمان بسيناريوهات السماء‏.‏

في يوم ميلادي‏,‏ أقلب صفحات كتاب العمر واتنقل من صفحة لأخري حيث كتبت بحبر سري اكتشافاتي وهي ليست الجدار النهائي لأفكاري‏,‏ فالحياة لوحة نرسمها بالألوان والظلال‏,‏ من اكتشافاتي‏,‏ أن أخص صدري فقط بأسراري وأن أضع نسبة ما لغدر البشر‏,‏ أقرب البشر‏!‏ من اكتشافاتي أن نساء زماننا يلتقي فيهن الطهر والعهر‏,‏ وأبدا لا أعطي امرأة مهمة ربان سفينتي لأنها قد تقودني الي خليج المخاطر‏!‏

من اكتشافاتي أن التأمل يحجب كثيرا متع الحياة‏,‏ لأني أعيش المتعة مفتوح العينين‏!‏ من اكتشافاتي أن المال يذل أعناق الرجال وأن لكل إنسان في الوجود‏(‏ أجندته‏)‏ الخاصة يعلنها أو يكتمها‏,‏ لكنه يسعي ليحققها ولو اصطدمت مع القيم‏,‏ اكتشفت أيضا أن صداقة السلطة باطلة لأنها مرهونة بالكرسي‏,‏ وحين أبحرت في حياتي ـ كصفة بشرية ـ أدركت أن ما حققته في سنوات العمر كان جهدا وسيرا فوق الأشواك‏,‏ كان حنان أمي يضيء لي عتمة الطرق الوعرة وحين رحلت تسلحت بصلابة زرعها أبي في كياني‏,‏ عرفت قسوة المرض وصادقت طوال السنين مرض السكر وكانت قمة الحنان تتجسد في حنان ـ ابنتي الوحيدة ـ التي كانت تقوم من نومها وتتجه لغرفة نومي تدخلها علي أطراف أصابعها لتسمع دقات قلبي وتطمئن انني مازلت حيا‏,‏ بعد آمال العمدة‏,‏ عرفت الوحدة ولم أعد أحفل كثيرا بيوم ميلادي ربما لاني دربت نفسي علي دروبها‏,‏ صار التصاقي بالبيت أكثر لأنه‏(‏ قلعتي‏)‏ حيث أصبح الشارع وحشا ضاريا بدءا من سلوكيات الناس الي الأرصفة العالية المرهقة لكبار السن‏.‏

في يوم ميلادي أتذكر اني عبرت محطة‏(‏ السبعين‏),‏ ولاتزال ـ بنعمة الخالق ـ لم تصدأ ذاكرتي ولا أشكو من هشاشة عظامي‏,‏ ذلك اني مازلت‏(‏ مهموما‏)‏ مرتين‏,‏ مرة بهموم بلادي ومرة بهموم روحية‏,‏ حين تنشغل الذاكرة تقف متحدية صدأ الزمن‏,‏ وحين ينخرط الإنسان في مجتمعه فاعلا‏,‏ يبدو أقل عمرا مهما مضي قطار العمر‏.‏

في يوم ميلادي‏,‏ أعتز بتجاعيد الزمن فوق وجهي ولا أخجل منها ولا أذهب للشد أو المد برغم اني أظهر علي الشاشة حيث لم تظهر التجاعيد فوق روحي‏!‏ وكل قيمتي في تجربتي‏,‏ فهي محبرة قلمي أو عدستي‏,‏ وعندي قناعة أن يوما عاديا أبدو فيه بلا متاعب صحية هو يوم ميلاد جديد‏,‏ وعندي قناعة أن كلمة أكتبها مؤثرة أو لقطة علي شاشة مؤثرة هي عيد ميلاد لي حقا‏.‏

في يوم ميلادي أتساءل‏:‏ بم يحسب العمر؟ بالسنين أم باللحظات النادرة من النجاح أم بالحب الآسر أم بأيام البال الخالي أم بماذا؟ وقد أجبت عن السؤال بأن العمر يحسب بالعطاء وبقدر إسعاد الآخرين وليس بعدد السنين‏!‏

حين أعرف صديقا بلغ الثمانين‏,‏ يروق لي أن أرسل مع باقة الورد الأبيض عبارة‏(‏ انت عشت الأربعين مرتين‏)!‏ إن لكل عمر سحره وجماله ونضجه الذهني والعاطفي‏,‏ حتي تساميه وزهده‏.‏

في عيد ميلادي لا أطفيء الشموع بل أشعل شموع الأمل والرجاء والستر‏.‏
المصدر الاهرام المصرية

2 comments:

  1. Thanks for sharing -
    Take a look at http://mona-myownroom.blogspot.com/2009/12/2009.html

    ReplyDelete
  2. Mona : thank you for mentioning my book as one of your fav for 2009 :)

    will write you some of mine :)

    ReplyDelete